مناظر الطائرة- نوافذ على التاريخ والجغرافيا والجمال

المؤلف: طارق فدعق08.10.2025
مناظر الطائرة- نوافذ على التاريخ والجغرافيا والجمال

إن "الطيق" هي جمع لكلمة "طاقة"، وهي لفظة عريقة تعني "نافذة". ومما لا ريب فيه، أن من أعظم متع السفر بالطائرة هي تلك المشاهد البديعة التي يهبنا إياها الخالق عز وجل، والتي تتجلى من نوافذ الطائرة على مختلف الارتفاعات، لا سيما في العلو الشاهق. لقد غمرتني السعادة في رحلة اليوم، التي اتجهت شمالاً نحو ربوع الوطن، وكما جرت العادة في مثل هذه الرحلات، أحرص بإلحاح على الجلوس بجوار النافذة، وأن أكون على الجانب الأيمن عند الذهاب، والجانب الأيسر عند العودة. والدافع وراء ذلك هو أنني في بعض الأحيان أنعم بالنظر إلى سواحلنا الفاتنة حتى نبلغ حدودنا الشمالية أو نحاذيها.

وبمشيئة القدير عز وجل، يحالفني الحظ أحياناً برؤية أرض فلسطين الغالية، وبالأخص القدس الشريف، وعلى الرغم من أنني أتوق لرؤيتها عن كثب، وأن أستنشق عبير ترابها الزكي، إلا أن رؤيتها من عليائها تزرع البهجة في فؤادي، وتذكي الحزن في أعماقي، وذلك لما آل إليه حال أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. تندفع طائرتنا بسرعة تقارب المائتين وسبعين متراً في الثانية الواحدة، لتنتزع مني تلك اللحظات المبهجة لرؤية درة المدائن، لتنقلني إلى عالم آخر ساحر، هو عالم البحار. ففي سماء البحر الأبيض المتوسط، يرسل عقلك في رحلة عبر حقب تاريخية غابرة. كان هذا البحر يُعرف بـ "البحر الأعظم"، إذ لم يكن يخطر ببال سكان أفريقيا وأوروبا وبعض أجزاء آسيا أن يكون هناك مسطح مائي أوسع منه.

وكان من يقدر على بسط سيطرته عليه، يتمكن من فرض كلمته على الجميع. ولا شك أنك ستدرك أهمية قناة السويس، التي يسرت الربط بين الشرق وهذا البحر، وبين الغرب بسهولة ويسر. ومن خلال النافذة، قد يتبين لك أن البحر الأبيض المتوسط ما هو إلا مجموعة من البحار المتصلة... فعلى يمينك، في أقصى الشرق، يقع بحر "إيجه"، الذي كان السبيل الرئيس لنشر الحضارة الإغريقية من فلسطين إلى مصر، ومنها إلى بلاد الفرس. وفي العصر الحالي، يشكل بحر إيجه تحدياً عسكرياً للدول المطلة عليه، وعلى رأسها اليونان، التي تتألف من أكثر من مائتي جزيرة، وكلها تتطلب قوات بحرية يقظة وقوية... وتستلزم أيضاً ميزانيات ضخمة، أسهمت في إحداث أزمات اقتصادية للبلاد.

والعلة في ذلك أنها تضاهي إنتاج السلع والخدمات السلمية، الرامية إلى تحسين مستوى معيشة المواطن اليوناني. وسرعان ما تحركت الطائرة لتضع المشهد التالي في الطاقة، وهي إيطاليا. ومن دواعي العجب هنا أن هذه الدولة العريقة لم تتوحد إلا في عام ١٨٧١، وقبل ذلك كانت عبارة عن مجموعة من الإمارات المتفرقة، تتفاوت فيما بينها في مستوى المعيشة من إقليم لآخر. ومن نافذة الطائرة، ستلاحظ أن ألوان الأرض الخضراء تزداد كثافة كلما اتجهت شمالاً. وهذا "الخَضار" كان ولا يزال من محفزات التباين في الدخول عبر التاريخ، فالمناطق الزراعية كانت بيئة سانحة للتجارة والرخاء بفضل الله. وهنا تتضح أحد الدعائم الأساسية في تفسير الفروقات بين الزراعة، والتجارة، والدخل، والتميز العمراني، بل والحضارة بأوجهها المختلفة، ألا وهي المياه الجارية. فمن طاقة الطائرة، قد تلمح كيف أن الأنهار المتنوعة في أوروبا ترسم ملامح بلدان بأكملها، فتسهم في تحديد حدودها. وفي الواقع، إذا أمعنت النظر في جغرافية البلدان تحت طائرتك، ستجد أن البحار والأنهار، والجبال هي أهم العناصر التي تحدد تخوم البلدان. وعلى الرغم من قوة هذه العناصر، يحرص البشر على الاعتداء على جيرانهم وسلب أراضيهم قدر استطاعتهم.

تفضل بمقارنة خريطة العالم قبل مائة عام بوضعها الراهن، وسوف تدهشك الفروق الشاسعة، تأمل في وضع فلسطين الشقيقة، والعديد من دول الشرق الأوسط، بل وحتى في العديد من دول أوروبا، كبولندا التي نمت وتقلصت واختفت وظهرت خلال المائة سنة الماضية. وبالطبع لا يمكننا أن نغفل ذكر الاتحاد السوفيتي، والباكستان، وبنجلاديش، ومجموعة "الستانات"... باكستان، وداغستان، وكازاخستان، وتركمانستان.... وعلى فكرة، كلمة "ستان" فارسية معناها أرض... ويا ترى ما الذي سيشاهده أبناؤنا وأحفادنا من طيق الطائرات في المستقبل.

أمنية

إن أروع الكنوز في الجغرافيا والتاريخ والعمران هي تلك التي نشاهدها من نوافذ الطائرة. أرجو ألا نضيع على أنفسنا وأبنائنا فرص هذه الاستكشافات، فالكثير مما نراه من طيق الطائرات هو من أبهى ما أنعم به الله عز وجل، وهو من وراء القصد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة